سورة الكهف - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


ولما أتم المثل لدنياهم الخاصة بهم التي أبطرتهم، فكانت سبب إشقائهم وهم يحسبون أنها عين إسعادهم ضرب لدار الدنيا العامة لجميع الناس في قلة بقائها وسرعة فنائها، وأن من تكبر بها كان أخس منها فقال تعالى: {واضرب لهم} أي لهؤلاء الكفار المغترين بالعرض الفاني، المفتخرين بكثرة الأموال والأولاد وعزة النفر {مثل الحياة الدنيا} أي التي صفتها- التي هم بها ناطقون- تدل على أن ضدها الأخرى، في ينوعها ونضرتها، واختلابها للنفوس ببهجتها، واستيلائها على الأهواء بزهرتها، واختداعها لذوي الشهوات بزينتها، ثم اضمحلالها وسرعة زوالها، أفرح ما كانوا بها، وأرغب ما كانوا فيها مرة بعد أخرى، على مر الأيام وكر الشهور، وتوالي الأعوام وتعاقب الدهور، بحيث نادت على نفسها بالتحذير منها والتنفير عنها للعاقل اللقن، والكيس الفطن، رغبة إلى الباقي الذي يدوم سروره، ويبقى نعيمه وحبوره، وذلك المثل {كماء أنزلناه} بعظمتنا واقتدارنا بعد يبس الأرض وجفاف ما فيها وزواله، وبقلعه كما تشاهدونه واستئصاله، وقال: {من السماء} تنبيهاً على بليغ القدرة في إمساكه في العلو وإنزاله في وقت الحاجة على الوجه النافع {فاختلط} أي فتعقب وتسبب عن إنزاله أنه اختلط {به نبات الأرض} أي التراب الذي كان نباتاً ارفت بطول العهد في بطنها، فاجتمع بالماء والتفّ وتكاثف، فهيأناه بالتخمير والصنع الذي لا يقدر عليه سوانا حتى أخرجناه من الأرض أخضر يهتز على ألوان مختلفة ومقادير متفاوتة ثم أيبسناه {فأصبح هشيماً} أي يابساً مكسراً مفتتاً {تذروه} أي تثيره وتفرقه وتذهب به {الرياح} حتى يصير عما قليل كأنه بقدرة الله تعالى لم يكن {وكان الله} أي المختص بصفات الكمال {على كل شيء} من ذلك وغيره إنشاء وإفناء وإعادة {مقتدراً} أزلاً وأبداً، فلا تظنوا أن ما تشاهدونه من قدرته حادث.
ولما تبين بهذين المثلين وغيرهما أن الدينا- التي أوردت أهلها الموارد وأحلتهم أودية المعاطب- سريعة الزوال، وشيكة الارتحال، مع كثرة الأنكاد، ودوام الأكدار، من الكد والتعب، والخوف والنصب كالزرع سواء، تقبل أولاً في غاية النضرة والبهجة، تتزايد نضرتها وبهجتها شيئاً فشيئاً، ثم تأخذ في الانتقاص والانحطاط إلى أن تنتهي إلى الفناء، فهي جديرة لذلك بالزهد فيها والرغبة عنها، وأن لا يفتخر بها عاقل فضلاً عن أن يكاثر بها غيره، قال تعالى: {المال والبنون} الفانيان الفاسدان وهما أجلّ ما في هذه الدار من متاعها {زينة الحياة الدنيا} التي لو عاش الإنسان جميع أيامها لكان حقيقاً لصيرورة ما هو في منها إلى زوال بالإعراض عنها والبغض لها، وأنتم تعلمون ما في تحصيلهما من التعب، وما لهما بعد الحصول من سرعة العطب، وهما مع ذلك قد يكونان خيراً إن عمل فيهما بما يرضي الله، وقد يكونان شراً ويخيب الأمل فيهما، وقد يكون كل منهما سبب هلاك صاحبه وكدره، وسوء حياته وضرره {والباقيات الصالحات} وهي أعمال الخير المجردة التي يقصد بها وجه الله تعالى التي رغبنا فيها بقولنا: {لنبلوهم أيهم أحسن عملاً} [الكهف: 7] وما بعده {خير} أي من الزينة الفانية. ولما كان أهم ما إلى من حصل النفائس لكفايته من يحفظها له لوقت حاجته قال: {عند ربك} أي الجليل المواهب، العالم بالعواقب، وخير من المال والبنين في العاجل والآجل {ثواباً وخير} من ذلك كله {أملاً} أي من جهة ما يرجو فيها من الثواب ويرجو فيها من الأمل، لأن ثوابها إلى بقاء، وأملها كل ساعة في تحقيق وعلو وارتقاء، وأمل المال والبنين يختان أحوج ما يكون إليهما.
ولما ذكر المبدأ ونبه على زواله، وختم بأن المقصود منه الاختبار للرفعة بالثواب أو الضعة بالعقاب، وكان الخزي والصغار، أعظم شيء ترهبه النفوس الكبار، لا سيما إذا عظم الجمع واشتد الأمر، فكيف إذا انضم إليه الفقر فيكف إذا صاحبهما الحبس وكان يوم الحشر يوماً يجمع فيه الخلائق، فهو بالحقيقة المشهود، وتظهر فيه العظمة فهو وحده المرهوب، عقب ذكر الجزاء ذكره، لأنه أعظم يوم يظهر فيه، فقال تعالى عاطفاً على {واضرب}: {ويوم} أي واذكر لهم يوم {نسير الجبال} عن وجه الأرض بعواصف القدرة كما يسير نبات الأرض- بعد أن صار هشمياً- بالرياح {فترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب} [النحل: 88] {وترى الأرض} بكمالها {بارزة} لا غار فيها ولا صدع ولا جبل ولا نبت ولا شجر ولا ظل {و} الحال أنا قد {حشرناهم} أي الخلائق بعظمتنا قبل التسيير بتلك الصيحة، قهراً إلى الموقف الذي ينكشف فيه المخبآت، وتظهر الفضائح والمغيبات، ويقع الحساب فيه على النقير والقطمير، والنافذ فيه بصير، فينظرون ويسمعون زلازل الجبال عند زوالها، وقعاقع الأبنية والأشجار في هدها وتباين أوصالها، وفنائها بعد عظيم مرآها واضمحلالها {فلم نغادر} أي نترك بما لنا من العظمة {منهم} أي الأولين والآخرين {أحداً} لأنه لا ذهول ولا عجز.


ولما ذكر سبحانه حشرهم، وكان من المعلوم أنه للعرض، ذكر كيفية ذلك العرض، فقال بانياً الفعل للمفعول عل طريقة كلام القادرين، ولأن المخوف العرض لا كونه من معين: {وعرضوا على ربك} أي المحسن إليك برفع أوليائك وخفض أعدائك {صفاً} لاتساع والمسايقة إلى داره، لعرض أذل شيء وأصغره، وأطوعه وأحقره، يقال لهم تنبيهاً على مقام العظمة: {لقد جئتمونا} أحياء سويين حفاة عراة غرلاً {كما خلقناكم} بتلك العظمة {أول مرة} منعزلين من كل شيء كنتم تجمعونه وتفاخرون به منقادين مذعنين فتقولون {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} [يس: 52] فيقال لكم: {بل زعمتم} أي ادعيتم جهلاً بعظمتنا {أن} أي أنا {لن نجعل لكم} على ما لنا من العظمة {موعداً} أي مكاناً ووقتاً نجمعكم فيه هذا الجمع فننجز ما وعدناكم به على ألسنة الرسل {ووضع} بأيسر أمر بعد العرض المستعقب للجمع بأدنى إشارة {الكتاب} المضبوط فيه دقائق الأعمال وجلائلها على وجه بيِّن لا يخفى على قارئ ولا غيره شيء منه {فترى المجرمين} لتقر عينك منهم بشماتة لا خير بعدها {مشفقين مما فيه} من قبائح أعمالهم، وسيئ أفعالهم وأقوالهم أي خائفين دائماً خوفاً عظيماً من عقاب الحق والفضيحة عند الخلق {ويقولون} أي يجددون ويكررون قولهم: {ياويلتنا} كناية عن أنه لا نديم لهم إذ ذاك إلا الهلاك {مال هذا الكتاب} أي أي شيء له حال كونه على غير حال الكتب في الدنيا، ورسم لام الجر وحده إشارة إلى أنهم صاروا من قوة الرعب وشدة الكرب يقفون على بعض الكتب، وفسروا حال الكتاب التي أفظعتهم وسألوا عنها بقولهم: {لا يغادر} أي يترك أي يقع منه غدر، أي عدم الوفاء وهو من غادر الشيء: تركه كأن كلاًّ منهما يريد غدر الآخر، أي عدم الوفاء به، من الغدير- لقطعة من الماء يتركها السيل كأنه لم يوف لهما بأخذ ما معه، وكذا الغديرة لناقة تركها الراعي {صغيرة} أي من أعمالنا.
ولما هالهم إثبات جميع الصغائر، بدؤوا بها، وصرحوا بالكبائر- وإن كان إثبات الصغائر يفهمها- تأكيداً لأن المقام للتهويل وتعظيم التفجع، وإشارة إلى أن الذي جرهم إليها هو الصغائر- كما قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه- فقالوا: {ولا كبيرة إلا أحصاها} ولما كان الإحصاء قد لا يستلزم اطلاع صاحب الكتاب وجزاءه عليه، نفى ذلك بقوله تعالى: {ووجدوا ما عملوا حاضراً} كتابة وجزاء من غير أن يظلمهم سبحانه أو يظلم من عادوهم فيه {ولا يظلم ربك} الذي رباك بخلق القرآن {أحداً} منهم ولا من غيرهم في كتاب ولا عقاب ولا ثواب، بل يجازى الأعداء بما يستحقون، تعذيباً لهم وتنعيماً لأوليائه الذين عادوهم فيه للعدل بينهم؛ روى الإمام أحمد في المسند عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سافر إلى عبد الله بن أنيس رضي الله عنه مسيرة شهر فاستأذن عليه قال: فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته، قلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت قبل أن أسمعه، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «يحشر الله عز وجل الناس- أو قال: العباد- حفاة عراة بهما قلت: وما بهما؟ قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند أحد من أهل النار حق حتى أقصه منه حتى اللطمة، قال: قلنا: كيف وإنما نأتي الله حفاة عراة بهما؟ قال: بالحسنات والسيئات».
ولما ذكر البعث وختمه بإحسانه بالعدل المثمر لإعطاء كل أحد ما يستحقه، أتبعه- بما له من الفضل- بابتداء الخلق الذي هو دليله، في سياق مذكر بولايته الموجبة للإقبال عليه، وعداوة الشيطان الموجبة للإدبار عنه، مبين لما قابلوا به عدله فيهم وفي عدوهم من الظلم بفعلهم كما فعل من التكبر على آدم عليه السلام بأصله، فتكبروا على فقراء المؤمنين بأصلهم وأموالهم وعشائرهم، فكان فعلهم فعله سواء، فكان قدوتهم وهو عدوهم، ولم يقتدوا بخير خلقه وهو وليهم وهو أعرف الناس به، فقال تعالى عاطفاً على {واضرب}: {وإذ} أي واذكر لهم إذ {قلنا} بما لنا من العظمة {للملائكة} الذين هم أطوع شيء لأوامرنا وإبليس فيهم، قال ابن كثير: وذلك أنه كان قد ترسم بأفعال الملائكة وتشبه بهم وتعبد وتنسك، ولهذا دخل في خطابهم وعصى بالمخالفة {اسجدوا لآدم} أبيهم نعمة منا عليه يجب عليهم شكرنا فيها {فسجدوا} كلهم {إلا إبليس} فكأنه قيل: ما له لم يسجد؟ فقيل: {كان} أي لأنه كان {من الجن} المخلوقين من نار، ولعل النار لما كانت نيرة وإن كانت نورانيتها مشوبة بكدورة وإحراق، عد من الملائكة لاجتماع العنصرين في مطلق النور، مع ما كان غلب عليه من العبادة، فقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان- وفي رواية: إبليس- من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» وفي مكائد الشيطان لابن أبي الدنيا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الجن كانت قبيلة من الملائكة.
ولما كان أكثر الجن مفسداً، رجوعاً إلى الأصل الذي هو النار المحرقة لما لاصقها، المفسدة له، سبب فسقه عن كونه منهم فقال تعالى: {ففسق} أي خرج، يقال: فسقت الفأرة من حجرها- إذا خرجت للعيث والفساد. {عن أمر ربه} أي سيده ومالكه المحسن إليه بإبداعه، وغير ذلك من اصطناعه، في شأن أبيكم، إذ تكبر عليه فطرده ربه من أجلكم، فلا تستنوا به في الافتخار والتكبر على الضعفاء، فإن من كانت خطيئته في كبر لم يكن صلاحه مرجواً، ومن كانت خطيئته في معصية كان صلاحه مرجواً، ثم سبب عن هذا ما هو جدير بالإنكار فقال تعالى في أسلوب الخطاب لأنه أدل على تناهي الغضب وأوجع في التبكيت، والتكلم لأنه أنص على المقصود من التوحيد: {أفتتخذونه} أي أيفسق باستحقاركم فيطرده لأجلكم فيكون ذلك سبباً لأن تتخذوه {وذريته} شركاء لي {أولياء} لكم {من دوني} أي اتخاذاً مبتدئاً من غيري أو من أدنى رتبة من رتبتي، ليعم الاتخاذ استقلالاً وشركة، ولو كان المعنى: من دون- أي غير- اتخاذي، لأفاد الاستقلال فقط، ولو كان الاتخاذ مبتدئاً منه بأن كان هو الآمر به لم يكن ممنوعاً، وأنا وليكم المفضل عليكم {وهم لكم} ولما كان بناء فعول للمبالغة ولا سيما وهو شبيه بالمغالاة في نحو القول، أغنى عن صيغة الجمع فقال: {عدو} إشارة إلى أنهم في شدة العداوة على قلب واحد. ولما كان هذا الفعل أجدر شيء بالذم، وصل به قوله تعالى: {بئس} وكان الأصل: لكم، ولكنه أبرز هذا الضمير لتعليق الفعل بالوصف والتعميم فقال تعالى: {للظالمين بدلاً} إذا استبدلوا من ليس لهم شيء من الأمر وهم لهم عدو بمن له الأمر كله وهو لهم ولي.


ولما كان الشريك لا يستأثر بفعل أمر عظيم في المشترك فيه من غير علم لشريكه به، قال معللاً للذم على هذا الظلم بما يدل عل حقارتهم عن هذه الرتبة، عادلاً في أسلوب التكلم إلى التجريد عن مظهر العظمة لئلا يتعنت من أهل الإشراك متعنت كما عدل في {دوني} لذلك: {ما أشهدتهم} أي إبليس وذريته {خلق السماوات والأرض} نوعاً من أنواع الإشهاد {ولا خلق أنفسهم} إشارة إلى أنهم مخلوقون وأنه لا يصح في عقل عاقل أن يكون مخلوق شريكاً لخالقه أصلاً {وما كنت} أي أزلاً وأبداً متخذهم، هكذا الأصل ولكنه أبرز إرشاداً إلى أن المضل لا يستعان به، لأنه مع عدم نفعه يضر، فقال تعالى: {متخذ المضلين عضداً} إشارة إلى أنه لا يؤسف على فوات إسلام أحد، فإن من علم الله فيه خيراً أسمعه، ومن لم يسمعه فهو مضل ليس أهلاً لنصرة الدين.
ولما أقام البرهان القاطع على بعد رتبتهم عن المنزلة التي أحلوهم بها من الشرك، أتبعه التعريف بأنهم مع عدم نفعهم لهم في الدنيا يتخلون عنهم في الآخرة أحوج ما يكونون إليهم تخييباً لظنهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، فقال تعالى عاطفاً على {إذ قلنا} عادلاً إلى مقام الغيبة، إشارة إلى بعدهم عن حضرته الشماء وتعاليه عما قد يتوهم من قوله تعالى: {وعرضوا على ربك صفاً لقد جئتمونا} [الكهف: 48] في حجب الجلال والكبرياء، وجرى حمزة في قراءته بالنون على أسلوب التكلم الذي كان فيه مع زيادة العظمة: {ويوم} أي واذكر يوم {يقول} الله لهم تهكماً بهم: {نادوا شركاءي} وبين أن الإضافة ليست على حقيقتها، بل هي توبيخ لهم فقال تعالى: {الذين زعمتم} أنهم شركاء {فدعوهم} تمادياً في الجهل والضلال {فلم يستجيبوا لهم} أي لم يطلبوا ويريدوا أن يجيبوهم إعراضاً عنهم استهانة بهم واشتغالاً بأنفسهم فضلاً عن أن يعينوهم.
ولما كانوا في غاية الاستبعاد لأن يحال بينهم وبين معبوداتهم، قال في مظهر العظمة: {وجعلنا بينهم} أي المشركين والشركاء {موبقاً} أي هلاكاً أو موضع هلاك، فاصلاً حائلاً بينهم، مهلكاً قوياً ثابتاً حفيظاً، لا يشذ عنه منهم أحد، وإنما فسرته بذلك لأنه مثل قوله تعالى: {فزيلنا بينهم} [يونس: 28] أي بالقلوب أي جعلنا ما كان بينهم من الوصلة عداوة، ومثل قوله تعالى: {ربنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذاباً ضعفاً من النار} [الأعراف: 38] {هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك} [النحل: 86] ونحوه، لأن معنى ذلك كله أنه يبدل ما كان بينهم من الود في الدنيا والوصلة ببغض وقطيعة كما قال تعالى: {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً} [العنكبوت: 25] وأن كل فريق يطلب للآخر الهلاك، فاقتضى ذلك اجتماع الكل فيه، هذا ما يرشد إلى المعنى من آيات الكتاب، ونقل ابن كثير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: هو واد عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة، وقال الحسن البصري: عداوة.
وأما أخذه من اللفظ فلأن مادة وبق- يائية وواوية مهموزة وغير مهموزة، ولها أحد عشر تركيباً: واحد يائي: بقي، وستة واوية: قبو، قوب، بقو، بوق، وقب، وبق، وأربعة مهموزة: قبأ، قأب، بأق، أبق- كلها تدور على الجمع، وخصوصاً ترتيب وبق يدور على الحائل بين شيئين، ويلزمه القوة والثبات والحفظ والهلاك قوة أو فعلاً، لأن من حيل بينه وبين شيء فقد هلك بفقد ذلك الشيء بالفعل إن كان الحائل موتاً، وبالقوة إن كان غيره، يقال: قبل الشيء: جمعه بأصابعه، والبناء: رفعه، والزعفران: جناه، والقبا- بالقصر: نبت- لأنه سبب الاجتماع لرعيه والانتفاع به وهو يجمع أيضاً، والقبا: تقويس الشيء- لأنه أقرب إلى اجتماع بعض أجزائه ببعض، والقبوة: انضمام ما بين الشفتين، ومنه القباء من الثياب، وقباه تقبية: عباه، أي جمعه حتى صار كأنه في مكان مقبو، وقبى عليه تقبية: عدا عليه في أمره- لأنه كان كأنه أوقعه في حفرة، والثوب: جعل منه قباء، وتقبى القباء: لبسه، وزيداً: أتاه من قفاه- لأن من يريد رمي أحد في حفرة كذلك يأتيه مخاتلة، وتقبى الشيء: صار كالقبة، وامرأة قابية: تلقط العصفر وتجمعه، والقابياء: اللئيم- لأنه بناء مبالغة، فيدل على كثرة الجمع والحرص اللازمين للؤم، وبنو قابياء: المجتمعون لشرب الخمر- لأنها حالة تظهر لؤم اللئام، وقباء- بالضم ويذكر ويقصر- موضع قرب المدينة الشريفة، وموضع بين مكة والبصرة، وانقبى: استخفى، وقبى قوسين وقباء قوسين- ككساء: قاب قوسين، والمقبي: الكثير الشحم- كأنه جمع لنفسه منه بالراحة ما صار كالبناء، والقباية: المفازة- لأنها تجمع ما فيها كما تجمع القبة والقباء والوقبة ما فيها. ومن مهموزة: قبأ الطعام- كجمع: أكله، ومن الشراب: امتلأ، والقباءة: حشيشة ترعى- لأن المال يجتمع على رعيها.
ومن الواوي: قاب الأرض يقوبها وقوّبها: حفر فيها شبه التقوير- لأن الدائرة أجمع ما يكون لغيرها وفي نفسها، لأنه لا زوايا فيها فاصلة، وقوبت الأرض: آثرت فيها، والقوبة: ما يظهر في الجسد ويخرج عليه- لأنه يكون غالباً على هيئة الدائرة، وتقوب جلده: تقلع عنه الجرب، وانحلق عنه الشعر- إما من الإزالة، وإما لأن آثاره تكون كالدوائر، وقوب الشيء: قلعه من أصله- لأن أثره إذا انقلع يكون حفراً مستديراً، وتقوب هو: تقلع، والقائبة والقابة: البيضة- لأنها لتدويرها تشبه ذلك الحفر، والقوب- بالفتح: فلق الطير بيضه، وبالضم: الفرخ- لأنه منها، وفي المثل: تخلصت قائبة من قوب- يضرب لمن انفصل من صاحبه، والقوبيّ: المولع بأكل الأقواب أي الفراخ، والقوب- كصرد: قشور البيض، وتقوبت البيضه: انقابت أي انحفرت، وأم قوب: الداهية- لجمعها ما تأتي عليه كأنه ابتلعه حفر، وقاب: قرب- لأن القرب مبدأ الجمع، وقاب: هرب، أي سلب القرب- ضد، وقاب: فلق، أي شق الجمع فهو من الإزالة أيضاً، وقاب قوس وقيبه، أي قدره- لأن القوس شبه نصف دائرة من ذلك الحفر، والقاب: ما بين المقبض والسية- لأنه بعض ذلك، ولكل قوس قابان، والأسود المتقوب: الذي انسلخ جلده من الحيات- لتدوّر ذلك الجلد وشبهه بالحفرة، واقتاب الشيء: اختاره، أي جمعه إليه، ورجل مليء قوبة- كهمزة: ثابت الدار مقيم- من الثبات الذي هو لازم الجمع، وقوب من الغبار: اغبر- إما لأن من يحفر ذلك بغير، وإما لأن الغبار كثر عليه حتى غطاه فصار له مثل تلك الحفرة.
ومن مهموزه: قأب الطعام- كمنع: أكله، والماء: شربه كقئبه- كفرح، أو شرب كل ما في الإناء، وقئب من الشراب: تملأ، وهو مقأب- كمنبر: كثير الشرب للماء، وإناء قَوأب: كثير الأخذ للماء- فهو كما ترى جمع مخصوص بالأكل والشرب، أو أنه جمعه في وقبة بطنه.
ومن الواوي: بقاه بعينه: نظر إليه- فهو من الحفظ اللازم للجمع، وابقُه بَقْوَتَك مالَك، وبقاوتك مالك أي احفظه حفظك مالك، وبقوته: انتظرته- وهو يرجع إلى الثبات والمراقبة التي ترجع إلى الحفظ، ويلزم الحفظ الثبات. ومن اليائي: بقي الشيء بقاء: ثبت ودام ضد فني، والاسم البقوى- كدعوى، ويضم، والبقيا- بالضم والبقية، وقد توضع الباقية موضع المصدر.
ومن واويّه: البوقة: الجمع والدفعة من المطر الشديد أو المنكرة تنباق- أنها نزلت من وقبة لشدتها، والبوائق: العوائد- لأنها جامعة لمن اعتادها، والبوائق: الشر- لأنه مهلك، فكأنه موقع في المهالك، والبوق- بالضم: شبه منقاب ينفخ فيه الطحان، أو الذي ينفخ فيه مطلقاً ويرمز- لأنه لتجويفه يشبه الوقبة، والبوق أيضاً: الباطل والزور- لأن صوته أشبع شيء بذلك، والمبوق- كمعظم: الكلام الباطل، والبوق- بالفتح: من لا يكتم السر- لأن البوق متى نفخ فيه صوّت، والبوقة: شجرة دقيقة- لأنها لدقتها يسرع إليها الهلاك كمن وقع فيه وقبة، والبائقة: الداهية- كأنها تدفع من أتته في الوقبة، وانباقت عليه بائقة: انفتقت، وباق: جاء بالشر والخصومات- من ذلك، وكذا باق، أي تعدى على إنسان، وانباق به: ظلمه، والبائقةُ القومَ: أصابتهم، كانباقت عليهم، أي خرجت لشدتها من وقبة، والباقة: الحزمة من بقل- لاجتماعها، وباق بك: طلع عليك من غيبة- كأنه كان في حفرة فخرج، ومنه باق فلان: هجم على قوم بغير إذنهم، وباق القوم: سرقهم، وباق به: حاق به، أي- أحاط كما تحيط الوقبة، وباق القوم عليه: اجتمعوا فقتلوه ظلماً، وباق المال: فسد وبار- كحال من وقع في حفرة، ومنه متاع بائق: لا ثمن له، وتبوّق في الماشية: وقع فيها الموت وفشا، والحاق باق: صوت الفرج عند الجماع- لأنه من الجمع، ولأن الفرج وقبة، ومن مهموزه: بأقتهم الداهية بؤوقاً: أصابتهم، وانبأق عليهم الدهر: هجم عليهم بالداهية.
ومن الواوي، الوقبة: كوة عظيمة فيها ظل، والوقب والوقبة: نقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء، وقيل: هي نحو البئر في الصفا تكون قامة أو قامتين يستنقع فيها ماء السماء، وكل نقر في الجسد وقب كنقر العين والكتف، والوقبان من الفرس: هزمتان فوق عينيه، ووقب المحالة: الثقب الذي يدخل فيه المحور، ووقبة الدهن: أنقوعته، وكذا وقبة الثريد، ووقب الشيء: دخل في الوقب، وأوقب الشيء: أدخله فيه، وركية وقباء: غامرة الماء، وامرأة ميقاب: واسعة الفرج وبنو الميقاب نسبوا إلى أمهم، يريدون سبهم بذلك، والميقاب: الرجل الكثير الشرب للماء، والحمقاء أوالمحمقة، وسير الميقاب: أن تواصل سير يوم وليلة- كأن ذلك سير الأحمق الذي لا يبقى على ظهره، ووقب القمر وقوباً: دخل في الظل الذي يكسفه- كأنه حفرة ابتلعته، ووقبت الشمس وقوباً: غابت كذلك، وقيل: كل ما غاب فقد وقب، ووقب الظلام، أقبل. أي فصار كالوقبة، فابتلع الضياء أو ابتلع ما في الكون فحجبه عن الضياء، ورجل وقب: أحمق- كأنه وعاء لكل ما يسمع، لا أهلية له في تمييز جيده من رديئه، والأنثى: وقبة، وقال ثعلب: الوقب: الدنيء، أي لأنه يتبع نفسه هواها فيصير كأنه الوقبة لا ترد شيئاً مما يلقي فيها، ووقب الفرس وقباً وهو صوت قنبه، أي وعاء قضيبه، وقيل: صوت تقلقل جردان الفرس في قنبه- لأن وعاء جردانه كالوقبة، فهو من اطلاق اسم المحل على ما فيه، والقبة- كعدة: الإنفحة إذا عظمت من الشاة، قال ابن الأعرابي: ولا يكون ذلك في غير الشاء- لأن شبه الإنفحة بالوقبة ظاهر، والوقباء: موضع يمد ويقصر، والوقبى: ماء لبني مازن- لأنه يجمعهم كما تجمع الوقبة ما فيها، والأوقاب: قماش البيت كالبرمة والرحيين والعمد- لأن البيت لها كالوقبة لجمعها أو لأنها جامعة لشمل من فيه، والميقب: الودعة، وأوقب القوم: جاعوا، أي تهيؤوا لإدخال الطعام في وقبة الجوف، وذكر أوقب: ولاّج في الهنات- لأنها كالأوقاب أي الحفر، والوقب: الإقبال والمجيء، وهو سبب الجمع.
ووبق- كوعد ووجل وورث وبوقاً وموبقاً: هلك، أي وقع فيه وقبة، أي حفرة كاستوبق، وكمجلس: المهلك والمحبس، وواد في جهنم، وكل شيء حال بين شيئين- لأن الوقبة تحول بين ما فيها وبين غيره.
ومنه قيل للموعد: موبق، وأوبقه: حبسه أو أهلكه.
ومن مهموزه: أبق العبد- كسمع وضرب ومنع- أبقاً ويحرك- وإباقاً- ككتاب: ذهب بلا خوف ولا كد عمل، أو استخفى ثم ذهب- وكل ذلك يوجع إلى جعله كأنه نزل في وقبة، ومن شأنه حينئذ أن يخفى، ومنه تأبق: استتر أو احتبس، وتأبق الشيء: أنكره- لأن سبب الإنكار الخفاء، وتأبق: تأثم، أي جانب الإثم، فهو لسلب الجمع أو لسلب الهلاك في الوقبة، والأبق- محركة: القنب- لشبهه لتجويفه بالوقبة، والأبق: قشره- لقوته اللازمة للجمع أو لأنه خيوط مجتمعة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8